الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من أسماء الله الحسنى المنّان:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع اسم جديد من أسماء الله الحسنى، وهو اسم المنّان.
اسم المنّان أيها الإخوة؛ لم يرد في القرآن الكريم، ولكنه ورد في السنة المطهرة، مراداً به العلمية، ودالاً على كمال الوصفية، كما تعودنا في أسماء الله الحسنى الثابتة، وقد ورد هذا الاسم في سنن أبي داود
(( من حديث أنس رضي الله عنه، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يصلي ثم دعا، فقال هذا الرجل: اللَّهمَّ إني أَسأَلُكَ بِأنَّ لَكَ الحمدَ، لا إِلهَ إِلا أنْتَ، المَنَّانُ، بَديعُ السَّمَواتِ والأرضِ، ذو الجَلالِ والإِكْرَامِ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحَابِهِ: أتَدرونَ بمَ دَعَا؟ قالوا: اللهُ ورسولُهُ أعلم، قال: والذي نفسي بيده، لَقَدْ دَعا الله باسمه الأعظم، الذي إِذَا دُعِيَ به أَجَابَ، وإِذَا سُئِلَ بِهِ أعْطَى. ))
هذا النص النبوي الشريف الصحيح ينقلنا إلى اسم الله الأعظم، اسم الله الأعظم إذا دعوت به أجابك، وإذا سألت به أعطاك، وقد اختلف العلماء حول اسم الله الأعظم، بعضهم قال: الرحمن، بعضهم قال: الرب، وفي هذا الحديث اسم الله الأعظم المنّان، وهناك من العلماء من يجتهد في أن اسم الله الأعظم هو الاسم الذي أنت بحاجة إليه، فإذا كان العبد مريضاً فاسم الله الأعظم هو الشافي، وإذا كان العبد فقيراً فاسم الله الأعظم هو الرزاق، وإذا كان العبد مقهوراً فاسم الله الأعظم المنتقم، وإذا كان العبد ضعيفاً فاسم الله الأعظم هو القوي.
معاني قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا :
أسماء الله كلها حسنى، وصفاته كلها فضلى، والله عز وجل يقول:
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
لهذه الآية معان كثيرة، من معاني هذه الآية: لن تستطيع أن تدعو الله إلا إذا توسلت إليه بكمال مشتق منه، تريد أن يجيبك الرحيم؟ كن رحيماً، تريد أن يستجيب لك العدل؟ كن عادلاً، تريد أن تُلبَّى دعوتك؟ كن مُنصِفاً: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ .
ومعنى آخر لهذه الآية أنت بحسب حالك اختر من أسماء الله الحسنى الاسم الذي أنت في أمس الحاجة إليه، قد تكون مُتطلّعاً إلى الشفاء، قل: يا شافٍ، يا عظيم، قد تكون متطلعاً إلى النُّصرة، قل: يا ناصر، يا رب انصرني، انصر دينك يا رب، فلذلك اسم الله الأعظم موضوع خلافي، المتفق عليه أن اسم الله الأعظم إذا دعوت به أجابك، وإذا سألت به أعطاك.
لكن هذا ينقلنا أيضاً إلى موضوع آخر، هو أنك حظك من الدعاء ليس الاستجابة، لكن حظك من الدعاء الاتصال بالله، لأن الله عليم، يجيبك ولو لم تدعه، ولا يجيبك ولو دعوته، كيف؟ يجيبك ولو لم تدعه إذا كانت الإجابة خيراً في حقك، ولا يجيبك ولو دعوته إذا كان مضمون دعائك ليس في صالحك، فكثيراً ما يدعو الإنسان ربه ولا يستجيب له، كمن يطلب من أبيه أداة حادة لجرح أخيه، عندئذٍ لا يستجيب له، فقال علماء التفسير: حظك من الدعاء ليس أن يجيبك الله، أن تتصل به، لأن الله سبحانه وتعالى جعل حاجاتنا عنده، وأمرنا أن ندعوه كي نتصل به، كي نذوق حلاوة القرب، فالمؤمن كما قال عليه الصلاة والسلام وهو في الطائف:
(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ))
[ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات ]
(( عن صهيب الرومي: عَجَبا لأمر المؤمن! إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر، فكان خيراً له، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له، وليس ذلك لغير المؤمن. ))
والمؤمن أيها الإخوة؛ حينما يوقن أن الله سبحانه وتعالى رحمته عامة، وأفعاله حكيمة، ولا يفعل إلا الأصلح، لأنه كامل كمالاً مطلقاً، عندئذٍ يستجيب لقضاء الله وقدره، ومن علامات المؤمن أنه يرضى بقضاء الله وقدره، إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن شكر اقتناه.
إذاً اسم الله الأعظم قد يكون اسم الرب، وقد يكون اسم الرحمن، وقد يكون اسم المنّان، كما ورد في هذا الحديث، ولكن قد يكون اسم الله الأعظم الاسم الذي أنت في أمسّ الحاجة إليه.
أيها الإخوة؛ المنان في اللغة صيغة مبالغة، والفعل منّ يمُنّ مَناً، معنى منّ، يمُنّ، منّاً أي قطع يقطع، قطع الشيء وذهب به، معنى ذلك أنه منّه.
شيء آخر؛ منّ عليه أي أحسن وأنعم عليه.
﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)﴾
أي غير محسوب، أو غير مقطوع، أو غير منقوص، هناك معان دقيقة لمنّ، منّ، يمُنّ، منّاً، المصدر، اسم المبالغة المنّان، على وزن فعّال، كأن تقول: غفّار.
﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)﴾
اسم الله إذا جاء بصيغة المبالغة يعني مبالغة في الكمّ، أو في النوع، أي الله عز وجل إذا قلت: يا غفّار، يغفر أكبر ذنب تتصوره، وإذا قلت: يا غفّار، يغفر مليون ذنب، والصلح مع الله يتِم بلمحة واحدة، والدنيا ساعة اجعلها طاعة ، والصلح سريع.
أيها الإخوة؛ بعض العلماء قال: المِنّة؛ النعمة الثقيلة، ولا تصح حقيقة إلا على نِعم الله، أي إنسانٌ قدم لإنسان هدية بألف ليرة، هذا عمل طيب، أما أن يعطيك بيتاً، ومركبة، وأرضاً، ورأس مالٍ، بلا مقابل، هذا عطاء كبير بمقياس البشر، فالمنّ النعمة الثقيلة، ولا تكون حقيقة إلا لله عز وجل، لأن الله سبحانه وتعالى منحك نعمة الإيجاد، أوجدك، ولم تكن شيئاً مذكورا، منحك نعمة الإمداد، منحك نعمة الهدى والرشاد، فالنِّعم العظيمة، النِّعم الجليلة، هي نعم الله عز وجل.
المنن والنعم الثقيلة لا تصح حقيقة إلا لنعم الله:
شيء آخر؛ هذه الدنيا أعطاها الله لمن يحب، ولمن لا يحب، أعطاها لقارون وهو لا يحبه، وأعطاها لسيدنا عثمان بن عفان، كان غنياً وهو يحبه، هذه الدنيا أعطى الملك لمن لا يحب، أعطاه لفرعون، وأعطاه لنبيه الكريم سليمان، لأن الدنيا تنتهي بالموت لا تُعدّ عطاءً يليق بكرم الله.
لذلك المنن؛ النعم الثقيلة، ولا تصح حقيقة إلا لنعم الله، وأكبر نعمة يمكن أن تصل إليها نعمة الهدى، لأن المال عَرَض حاضر، يتوقف القلب تصبح كل أموالك المنقولة وغير المنقولة للورثة، بثانية كان إنساناً ملء السمع والبصر فأصبح خبراً على الجدران، يقول لك: رحمة الله عليه، كان إنساناً صار جثة، أحياناً يسافر الإنسان راكباً يرجع بضاعة بصندوق، لها معاملة، تخليص وتقرير، كان إنساناً اصار بضاعة، كان إنسانًا صار خبرًا، فلذلك لا يليق بكرم الله أن يكون عطاؤه منقطعاً، والدنيا دار انقطاع، لذلك الموت يُنهي غنى الغني، يُنهي فقر الفقير، يُنهي قوة القوي، يُنهي ضعف الضعيف، يُنهي وسامة الوسيم، يُنهي دمامة الدميم، يُنهي صحة الصحيح، يُنهي مرض المريض، دار بلاء وانقطاع، من كل شيء إلى لا شيء، من كل شيء إلى كفن، كان بتوقيع على دفتر شيكات يمنح مليارات، فأصبح ملفوفاً بكفن، والغريب أن هذا الكفن ليس له جيب يضع فيه دفتر شيكات، هذه الحقيقة، فلذلك المنن؛ النعم الثقيلة، ولا تصح حقيقة إلا لنعم الآخرة.
بطولة الإنسان أن يستحق الجنة:
لذلك:
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾
البطولة أن تفوز فوزاً عظيماً، البطولة أن تستحق الجنة.
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
البطولة كما قال الإمام علي رضي الله عنه: الغنى والفقر بعد العرض على الله.
﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾
لكن المنّان هو الذي يُقدِّم لك نعمة ثقيلة، وعلى الحقيقة هي نعم الله عز وجل، ولكن هناك مَن يَمُنّ عليك، يقول لك: لحم كتفك من خيري، هذا منٌّ بالقول، وهو مُستقبَح، هناك منٌّ بالعمل؛ أن يعطيك، أن يُمَلّكك، أما المنّ بالقول مستقبح، لأن المنّ بالقول يُذهب الصنائع، المعروف.
فضل الله وعطاؤه ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام:
أيها الإخوة؛ من معاني المنّ في قوله تعالى:
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)﴾
أي أكبر عطاء هذا النبي العظيم.
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)﴾
أما المنّ القولي، دققوا:
﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)﴾
الله منّ عليكم بالعطاء، وأنتم تمُنون بالقول، والمنّ القولي مُستقبح، وهو يُذهب أجر العمل الصالح، أتمنى أن تكون هذه القاعدة واضحة عندكم، إن فعلت خيراً يجب أن تنساه إلى الأبد، وكأنك لم تفعل شيئاً، والأكمل وإذا فُعِل معك معروف ينبغي ألا تنساه ما حييت، أكمل موقف بمن أحسنت إليه أن يذكر هذا الفضل.
﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)﴾
أكمل موقف لمن أحسنت إليه ألا ينسى هذا الفضل، وأكمل موقف لمن أحسن أن ينسى، المُحسِن يجب أن ينسى، والمُحسَن إليه ينبغي ألا ينسى.
أيها الإخوة؛ أحياناً الإنسان من كماله لو ذكر إنسان فضله يقول: لله المنة والفضل، هذا فضل الله، إذا ذكر إنسان لمُحسِن إحسانه أيضاً من كمال المحسِن أن يقول: لله المنة والفضل، أساساً لما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي سعيد الخدري لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ : لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ : فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إِلا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا ؟ قَالَ : فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ : فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ : فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ َدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ : قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ : فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ ؟ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، قَالُوا : بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ : أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ؟ قَالُوا : وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ، قَال : أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلا فَأَغْنَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ، أَفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ، قَالَ : فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرَّقْنَا.))
لم يقل فهديتكم، قال: ((فَهَدَاكُمُ اللَّهُ)) لله المنة والفضل، أي إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك، فأنت تواضع، والتواضع موقف موضوعي، ليس موقف مجاملة، تواضع لله.
على الإنسان أن يذوب شكراً لله عندما يعطي:
مرة أحد الإخوة الكرام قدم بيتاً بموقع جيد جداً لمشروع خيري، القائمون على هذا المشروع الخيري أقاموا له حفلاً تكريمياً، وكل المتكلمين أثنوا على إحسانه وعطائه إلا واحداً قال كلاماً آخر، قال له: أيها المحسن الكبير كان من الممكن أن تكون أحد المنتفعين بجمعيتنا، وأن تقف في رتل طويل تنتظر الدور في قبض مبلغ يسير مع التوقيع المهين، ولكن الله كرّمك بأنك تعطي ولا تأخذ.
صدقوا أيها الإخوة؛ أنت حينما تعطي يجب أن تذوب لله شكراً، أنه سمح لك أن تعطي، ولم يُحِجك إلى أن تأخذ، والعطاء والأخذ لا علاقة له بالذكاء، قد تجد إنساناً قمة في الذكاء، مضطر أن يبذل ماء وجهه ليأخذ، قد تجد إنساناً قمة في الذكاء، ومع ذلك فقير، يضطر أن يسأل، ويتذلل، ويتضعضع أمام الغني، وإنساناً آخر أقلّ ذكاء، وأقلّ فهماً، لكن الله رازقه، فإذا أعطيت يجب أن تذوب شكراً لله أنه سمح لك أن تعطي، ولم يلجئك إلى أن تأخذ.
المنّان هو الله عز وجل، هو المنّان ذو الهبات العظيمة، والعطايا الوافرة، الذي يُنعم، ويبدأ بالنوال قبل السؤال، للتقريب: أب كريم، قوي، غني، ابنه بحاجة إلى ثياب جديدة، الكمال المطلق يقتضي أن يشتري له هذا الثياب من دون أن يسأله، فمن كمال الله عز وجل يعطي قبل السؤال، ويعطي من دون سؤال، هذا يُذكرنا بما قلته قبل قليل: حظك من الدعاء الاتصال، لأن كرم الله يقتضي أنه يعطيك ولو لم تكن سائلاً، وقد تسأله ولا يعطيك إن كان هذا العطاء ليس في صالحك، لأن الله عز وجل لا يفعل إلا ما هو خير لك.
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
لم يقل: والشر، أي أن عطاءك خير، ومنعك خير، إعزازك خير، وإذلالك خير، لكن العلماء قالوا: لا ينبغي أن تقول: الله ضار، ينبغي أن تقول: الضار النافع، لأنه يضر لينفع، لا ينبغي أن تقول: الله الخافض، هو يخفض ليرفع، لا ينبغي أن تقول: الله المُذل، هو يُذِلّ كي تتوب إليه عندئذٍ يُعِزك، الله عز وجل لله المنة والفضل، ولا مِنة لأحد عليه، يعطي قبل أن تسأل، يعطي من دون سؤال، ولله المنة والفضل، ولا منة لأحد عليه، وهو المحسن إلى العبد، والمُنعم عليه، ولا يطلب جزاء، أي:
﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)﴾
المن العطاء، لا تمنن من أجل أن تستكثر الرد، أحياناً يدّعي إنسان الذكاء، يقول لك: أنا الآن أخدمه، لكن أنا لي مصلحة معه، أخدمه، لكن أنتظر منه في وقت ما أن أسترد هذه الخدمات عطاء كبيراً، هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾ لكن الله سبحانه وتعالى يمنحك كل شيء، ولا يطالبك بشيء.
الإمام البخاري رحمه الله تعالى روى حديثاً رائعاً
(( عن معاذ بن جبل قال: كنت ردف النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا مُعاذُ أتَدْرِي ما حَقُّ اللَّهِ علَى العِبادِ؟ قالَ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئًا، أتَدْرِي ما حَقُّهُمْ عليه؟ قالَ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: ألا يُعَذِّبَهُمْ. ))
أنت حينما تعبد الله تؤدي واجب العبودية، وهذا من حق الله عليك.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)﴾
((ما حَقُّ اللَّهِ علَى العِبادِ؟ قالَ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئًا)) سؤال ثانٍ؛ قال: ((أتَدْرِي ما حَقُّهُمْ عليه؟)) دققوا، والله أيها الإخوة الكرام؛ القسم الثاني من هذا الحديث يملأ القلب أمناً وأماناً، يملأ القلب طمأنينة، يملأ القلب ثقة بالله عز وجل، ((يا معاذ هل تدري ما حقُّ العباد على الله؟)) كيف إله عظيم يعطي إنساناً ضعيفاً حقاً عليه؟! ((ما حقُّ العباد على الله؟ قالَ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ)) سأله ثانية وثالثة: ((قال: الله ورسوله أعلم، قال: يا معاذ حقُّ العباد على الله إذا هم عبدوه ألا يعذِّبهم)) أنشأ الله لك حقاً عليه، قال لك: اعبدني.
لذلك حينما ادّعى من ادّعى أنهم:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾
[ سورة المائدة ]
ردّ الله دعواهم، ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ﴾ استنبط الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أن الله لا يعذب أحبابه، مستحيل وألف ألف أَلف مستحيل أن يُعذِّب الله أحبابه، فإذا أحببته، إذا أطعته، إذا أخلصت إليه، إذا نصحت عباده، لم تبنِ مجدك على أنقاضهم، ولا غناك على إفقارهم، ولا عزك على إذلالهم، كنت خادماً لهم، نصحتهم، لم تلقِ بقلبهم الخوف، لم تبتز أموالهم، لم تفضح ثغراتهم، إذا كنت محسناً فإن الله يحبك، وإذا أحبك ألقى محبتك في قلوب الخلق، فلذلك: ((يا معاذ حقُّ العباد على الله إذا هم عبدوه ألا يعذِّبهم)) ، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ فإذا قال المسلمون: نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الجواب جاهز: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ .
الملف مدقق